الجمعة، أوت 3

الرفيق الراحل احمد ميشيل عفلق

القائد المؤسس الرفيق احمد ميشيل عفلق

الرفيق احمد ميشيل عفلق هو مؤسس البعث وواضع اسس عقيدته ، وقد اقترن تاريخ البعث ، طوال اكثر من نصف قرن ، بفكر هذا القائد الفذ ، ونضاله الفكري والسياسي ، ومسيرته الوضاءة الصافية ، وسيظل فكره ، ونضاله وسيرته ، نبع الهام ثراً لجميع رفاقه وتلاميذه الاوفياء ، ولكل مناضل يسعى لانهاض امته في الوطن العربي وفي العالم اجمع
ولد القائد المؤسس الرفيق احمد ميشيل عفلق في التاسع عشر من كانون الثاني عام 1910 في مدينة دمشق · وكانت اسرته رحمه الله اسرة عربية معروفة من جهة ابيه وامه · وكان البيت الذي نشأ فيه احد بيوت حي الميدان ، وهو حي من احياء دمشق القديمة كان معقلاً للوطنية والعروبة ومنبتاً للثورات الوطنية في سورية
ففي هذا الحي شهد الرفيق عفلق مبكراً صورة اعتقال والده على ايدي السلطة العثمانية كما شهد معالم الابتهاج بأول حكم استقلالي عربي عام 1918 ورأى صور مقاومة الاحتلال الفرنسي في معركة ميسلون عام 1920 ، وفي هذا الحي عايش اجواء الثورة السورية واخبارها يوماً بيوم ، ولاحظ اهل الحي وهم يطلقون شرارتها الاولى عام 1925 فكان لهذا كله اثر في صياغة وجدانه الوطني والقومي وتفتح وعيه واتقاده
وقد بدأ الرفيق القراءة والمطالعة في سن مبكرة ، وكانت قراءاته ومطالعاته تتفاعل مع معاناة البيئة التي نشأ فيها وتتجاوب مع همومه الوطنية والقومية

وقد تركزت قراءاته الاولى في ادب العرب وتاريخهم ، فاستهواه الشعر الوطني وشغف بسيرة الرسول العربي ، وقرأ بعض الكتابات العلمية والاجتماعية وهذا ادى الى تعميق وعيه القومي والاجتماعي ، وكان لخاله الدكتور شكري زيدان اثر كبير في توجيه قراءاته ومطالعاته
لذلك جاءت احداث الثورة السورية المسلحة عام 1925 ومعايشته اليومية لاجوائها واخبارها عاملاً مهماً في تطوير هذا الوعي ، خاصة وانها قد تزامنت مع احداث ثورة عربية اخرى في الريف المغربي على المستعمر الفرنسي نفسه
وحين اضطرت فرنسا في النهاية الى اتباع سياسة التفاوض ، وتجمع الوطنيون السوريون في حزب عرف باسم ( الكتلة الوطنية ) واشتركوا في اول مجلس تأسيسي ، وفي وضع دستور لسورية عام 1928 ، كانت اسرة القائد المؤسس ضمن هذا التكتل الوطني الجديد ، وشارك والده المرحوم يوسف عفلق في نشاطاته ، وكان القائد المؤسس نفسه مؤيداً لهذا التكتل ، وثبت على موقفه بالرغم من كل التقلبات السياسية اللاحقة ، وظل كذلك حتى انهى دراسته الثانوية وسافر الى فرنسا لإكمال دراسته

وهكذا اتجهت سيرة القائد المؤسس وجهة وطنية جادة منذ صباه ، فلم يلهه الصبا بما يلهي غيره عن قضايا وطنه وامته ، ولا صرفه عن تثقيف نفسه وتعميق وعيه ، بل اتجه الى كل ما هو مثمر وجاد في بناء الشخصية وتطويرها وزجها في انشطة ايجابية مفيدة ، وهذا في حد ذاته درس من الدروس

سافر الاستاذ عفلق الى باريس ليكمل دراسته في كلية الاداب بجامعة السوربون ، ويحصل منها على شهادة جامعية في حقل التاريخ · وكان اختياره هذا الحقل ذا صلة واضحة باهتماماته الفكرية والسياسية وبدلاً من ان تلهي باريس واضواؤها واجواؤها الخاصة شاباً مثله ، وتآخذه بعيداً عن قضايا وطنه وامته ، مارس رحمه الله النشاط الطلابي ببعديه السياسي والثقافي · فانضم الى جمعيتين هما : الجمعية العربية السورية وجمعية الثقافة العربية · وكانت الجمعية الاولى سياسية تطالب بالاستقلال والدفاع عن قضية فلسطين وتدعو الى الوحدة العربية الشاملة ، بينما كانت الاخرى جمعية ثقافية تعنى بالتعريف بآداب العرب ونتاجهم الفكري وتذكير العرب انفسهم بانهم ابناء ثقافة واحدة وحضارة واحدة ، وان التجزئة حدث طارئ على حياتهم

درس الاستاذ عفلق التاريخ دراسة علمية منهجية بوصفه موضوع تخصصه ولكنه لم يحصر قراءاته في هذا النطاق وحده وانما انهمك في الاطلاع على اعمال ابرز المفكرين والادباء الاوربيين المعاصرين · ومع انه شغف بآراء اولئك الكتاب واساليبهم لم ينس امته في تاريخها وحضارتها وخصائـصهـا ، كما يحدث لكثير ممن يدرسون في جامعات الغرب ويتأثرون بفلاسفته ومفكريه وبأنماط الحياة فيه ، ولا تجاهل واقع الامة الخاص ومشكلاتها وما تعانيه من استعمار وتخلف واستغلال ، فراح يدرس ماضي العرب بعمق وتأن ويحلل حاضرهم بتناقضاته وصراعاته ليستشرف من بعد ذلك المستقبل بما يخبئه من دور متميز لهذه الامة في سياسة العالم وحضارته

وفي باريس كان الاستاذ عفلق يلتقي بالطلبة العرب ولا سيما المغاربة منهم وكان يحاورهم في شؤون الامة وشجون اقطارها ، وكان هذا يعزز عنده القناعة بوحدة مشكلات الاقطار العربية ووحدة مصيرها ، ويؤكد له ان مؤامرة واسعة ومحبوكة كالتي يتعرض اليها الوطن العربي ، لا بد ان تقابلها ارادة عربية موحدة ونضال عربي موحد للرد عليها واحباطها · فلا فائدة إذاً من احزاب وحركات محلية تظهر في هذا القطر او ذاك ، مهما رفعت من شعارات وادعت من دعاوى ، وانما يجب ان يكون هناك تنظيم واحد بقيادة موحدة وعقيدة واضحة واصيلة تنظم العمل السياسي في الوطن العربي كله وتوجهه نحو اهداف محددة فيناضل من اجل ان تكون الوحدة العربية بديلاً للتجزئة ، والحرية بديلاً للاستعمار الاجنبي والاستبداد الداخلي ، والاشتراكية بديلاً للاستغلال وهيمنة الرجعية والاقطاع
وقد تجاوب مع هذه الافكار بعض زملاء الاستاذ عفلق واصدقائه ولا سيما صلاح الدين البيطار الذي اغتاله النظام السوري المجرم · وقد كان البيطار رحمه الله يدرس الفيزياء في باريس ، فتعاهد الشابان على العمل معاً من اجل هذه القضية وعلى ان يهبا حياتهما عند عودتهما الى الوطن ، لاهدافها السامية النبيلة ، بخلاف الكثيرين ممن يعدون الشهادة غاية الغايات ، ويستخدمونها لبناء حياة شخصية آمنه ومستقرة ، ويديرون ظهورهم لآلام الامة ومعاناتها ، وكأنهم ليسوا منها ، وغير معنيين باحوالها المتردية

عاد الاستاذ عفلق مع رفيقه البيطار الى سورية عام 1933 ، عادا وهما في شرخ الشباب ، وعينا مدرسين في اكبر مدارس دمشق واهمها ( مدرسة التجهيز الاولى ) ولكنهما لم ينسيا ما تعاهدا عليه ، ولا استسلما لدوامة الحياة اليومية ، ولا اغراهما ما تحقق من اهدافهما الشخصية ، بل شرعا بنشر بعض الكتابات السياسية التي اصبحت في ما بعد من طروحات الحزب الاولى وافكاره الاساسية

·ومع ان التوجهات الادبية كانت واضحة وواعدة لدى الاستاذ عفلق ولا سيما في مجال القصة القصيرة والمقالة والنقد ، ووجد فيها النقاد مستوى جديداً من الابداع السائد في تلك المرحلة · مع ذلك ، انصرف الاستاذ عن تلك التوجهات وانهمك في العمل السياسي وكرس قلمه للكتابات السياسية والـفـكـرية ، ولا سيما الكتابة حول القومية العربية ورسالة الامة واستعدادها لدخول مرحلة ثورية تحررية اصيلة وعميقة ذات آفاق حضارية وانسانية

وسرعان ما استقطبت هذه الافكار عدداً من الشبان القوميين المتحمسين من طلبة المدارس والجامعات فالتفوا حول الاستاذ عفلق ورفيقه البيطار ، وانتظموا معاً في موقف قومي واحد وعقيدة ثورية جديدة وراحوا يبشرون بها بين زملائهم ، غير ان هذا التجمع لم يتحول الى حركة سياسية الا بعد ان استكملت الشروط الموضوعية اللازمة لانشاء مثل هذه الحركة ، فكان ذلك في بداية الاربعينات ، اذ قام الاستاذ ورفيقه بتكوين اول جماعة سياسية منظمة سميت باسم ( الاحـيـاء الـعـربـي ) وصدر البيان الاول لهذه الـحـركـة فـي شـبـاط 1941وراحت هذه الحركة تبشر بافكارها وتمارس نشاطها السياسي ·· وكانت باكورة اعمالها ، نداءها للمشاركة في دعم انتفاضة العراق الوطـنـيـة عـام 1491 وتشكيل كتائب نصرة العراق

ولم يلبث الاستاذ عفلق ان استقال من مهنة التدريس واستقال معه البيطار عام 1941 وتفرغا معاً للعمل الحزبي ·· حتى اذا حل عام 1945 افتتح الاستاذ ورفيقه اول مكتب للحزب في دمشق ، ورددت قسم الحزب اول مجموعة بعثية من اعضائه

غير ان الاستاذ عفلق لم يكن مجرد مفكر سياسي ، بل كان مناضلاً بكل ما لهذه الكلمة من معنى · فكلما اقتضت معارك الامة حمل السلاح ، وجدت الاستاذ ورفاقه يهبون الى حمله · لقد حدث هذا اول مرة عام 1941 حين شكل حركة باسم ( حركة نصرة العراق ) ايام اندلاع ثورة 2 مارس ضد الاستعمار البريطاني وعملائه · ثم تكرر حين قصف المستعمرون الفرنسيون مدينة دمشق عام 1945 وتكرر مرة اخرى في نيسان 1948 حين قاد الاستاذ ورفيقه البيـطـار ، مجموعات المتطوعين البعثيين في حرب فلسطين ·· وهكذا هو المناضل البعثي ·· رجل فكر وتنظيم وسياسة وبناء في اوقات السلم ، ومقاتل ثوري مضح بالروح حين تقتضي معارك الامة القتال

وفي نيسان عام 1947 افتتح الاستاذ عفلق المؤتمر التأسيسي الاول للحزب ، واقر في هذا المؤتمر دستور الحزب ونظامه الداخلي ، وانتخب الاستاذ عميداً للحزب ( اي اميناً عاماً له ) وظل يشغل هذه المسؤولية حتى وفاته في 23 حزيران 1989 ، عدا ســـنــوات مـعـدودات (1965-1968) حين بدأ التمهيد لمؤامرة 23 شباط 1966 في سورية ، تلك المؤامرة التي استهدفت تصفية الحزب وتشويه شعاراته والتلاعب بافكاره ومبادئه

وقد تعرض الاستاذ عفلق مرات عديدة خلال حياته للاضطهاد والاعتقال والمطاردة والتشريد ·· وكثيراً ما اضطر بسبب هذا الى الاختفاء والتنقل وتغيير اماكن الاقامة · ففي ايلول عام 1948 حكم عليه بالسجن لمدة ستة اشهر في اثر عودته من ساحات القتال في فلسطين

وناضل الاستاذ عفلق ضد الدكتاتورية العسكرية التي تعاقبت على حكم سورية في اوائل الخمسينات واعتقل مع عدد كبير من رفاقه البعثيين

وقد لوحق الاستاذ غير مرة واستهدفت حياته غير مرة ، فاضطر الى مغادرة سورية والاقامة في لبنان وغيرها حتى استقر في العراق في اواسط السبعينات ·· ولم تكن ثمة معركة خاضتها الامة او قطر من اقطارها إلا وكان للاستاذ جهد فكري وسياسي في خوضها ·· وهكذا كان الامر مع حركات الاستقلال والثورة في اقطار المغرب العربي ، ولا سيما ثورة الجزائر ضد الاحتلال الفرنسي ·· وفور قيام ثورة 14 تموز 1958 زار الاستاذ العراق واعلن تأييد الحزب لها واسناده اياها

وكان الاستاذ عفلق داعية للوحدة العربية طوال حياته ، وفي المدة بين 1955 و 1958 كان ابرز الداعين الى وحدة مصر وسورية ، بما بذل من جهود فكرية وسياسية مكثفة وقوية ، وادى دوراً اساسياً في انجاز هذه الوحدة ·· وحين جرى التآمر ووقع الانفصال قاومه الاستاذ عفلق فكراً وسياسة ، فما كان من الانفصاليين الا اضطهاده وايذاؤه ··
وحين فجر الحزب ثورة 17 - 30 تموز 1968 في العراق ، وعززت الثورة خط الحزب الاصيل ، كان الاستاذ عفلق على صلة وثيقة برفاقه في بغداد يزورهم بين الحين والاخر ، ويطلع على نشاطاتهم وانجازاتهم ، ويلقي الكثير من الخطب والاحاديث التي تحتوي افكاره وتعبر عن تجربته النضالية الطويلة ، وظل هكذا حتى غادر لبنان واستقر في العراق حيث تبنى التجربة البعثية الاصيلة وتخاض معارك الامة الجهادية

وقد وجد الاستاذ عفلق في الرفيق القائد صدام حسين نموذج البعثي المناضل الذي وهبه الله مواهب القيادة ، وبنى بنفسه شخصيته النضالية ، وعزز بفكره ونضاله وخبرته العميقة ما وهبه الله ، وهو القائل عنه : إنه هدية البعث الى العراق .. وهدية العراق الى الامة

ليست هناك تعليقات: