الثلاثاء، مارس 4

حينما يبتسم راضي فرحات


حينما يبتسم راضي فرحات

صلاح المختار

مرت الذكرى العطرة لاربعينية مناضل اخر يغادرنا قبل تحرير العراق ، بعد عمر مديد قضاه ببر النضال وتقوى اصحاب المبادئ الكبار ، الذين لا يحنون الهامة الا لله ولا يحترمون الا المبادي ومن يمثلها في سوح النضال . لقد كان ( ابو فادي ) رجل قيم راسخة رفض المساومة عليها ، فكان طبيعيا ان يتعرض للتنكيل بسبب ذلك ، لكنه واصل درب النضال مع رفاقه وتحمل الالام والتشرد وحملها فوق ظهره ، شابا قوي البنية ينحت الجبال باظافره ، وشيخا عليلا لا يكاد يستطيع الوقوف فوق ساقيه . كنت معه في بيروت في صيف 2006 واصر على ان يأخدني لارى معه شارع الكورنيش ومشيناه كله ، وهو يستند على ذراعي ، وهواء بحر بيروت يلفح وجوهنا ، وانا أتسائل رغم انني اعرف الجواب : هذا هو بحر بيروت يمتد الى اقصى نهايات عشق القلب ، وهي نهايات لانستطيع رؤيتها مهما حاولنا ، فهل وصلت مشاعر الحزن واليأس لدى غادة السمان حد انها غيبت البحر احتجاجا ، فاطلقت اسما لمجموعة قصصية لها وهو ( لا بحر في بيروت ) ؟ اتخيل قادتنا في الحزب الذين قضوا وقتا طويلا في بيروت ، وفي ذلك الشارع العتيد بالذات ، واستعيد صورهم كلهم ، وهي صور حبيبة على قلب كل بعثي حتى صور من خرج منهم من الحزب .
كان ابو فادي يؤشر بيده ويقول لي : كان هنا المقهى الفلاني الشهير ، وكان هنا المكان المفضل للرفيق فلان . وكنت فرحا ببيروت رغم انني كنت اراها بعين حزينة لعراقي تمنى كثيرا ، في زمن مضى ، ان يكون في بيروت حينما كانت مركزا للاشعاع الفكري ومتنفسا لكل مضطهد من كافة اقطار الوطن العربي ، قبل الحرب الاهلية في عام 1975! قلت له : اريد شراء الكتاب الفلاني ، فقال انه يوجد في مكتبة بعيدة من هنا ، فقلت له اذن انسى الموضوع .
لكنه بحركة نمر لم ينهكه الزمن صرخ : كاسترو لنذهب الى شارع الحمرا لشراء كتاب ! وكاسترو هو سائق ( ابو فادي ) ، الذي اطلق عليه والده هذا الاسم اعتزازا بالقائد العظيم فيدل كاسترو ، صعدنا في سيارته وخضنا في غمار زحام بيروت ، مقاتلين الرطوبة ، التي كانت تنهش من لحم راحتنا ، والزحام العنيف الذي كان يجفف منابع الهدوء في ذاكرتنا ، وشخصيات رواية مطاع صفدي ( جيل القدر ) تتراقص في مخيلتي في شوارع بيروت ، رغم مرور عقودعلى قراءتها ، وكنت اتذكر تركيزها على قلق جيل البعث ، الذي تصدى لتغيير العالم مع انه بلا تجربة او خبرة ! فواجهنا عالمنا الظالم والقاسي بلحم صدور شباب لا يعرفون سوى حب الامة العربية والاستعداد للاستشهاد من اجل وحدتها القومية .
كنت ارى بهّم عظيم صور تجسد الوضع الطائفي في لبنان تنتشر في شوارع جنوب بيروت ! اسئل ( ابو فادي ) : الم يكن جنوب بيروت مركزا للقومية العربية ؟ فيهز راسه ويجيب بابتسامة غامضة بكلمة واحدة فقط : نعم . واعرف ما يجول براسه لانه نفس ماكان يجول في ضميري ، فهذا الحي العروبي الذي عرفناه في العراق منذ الحرب الاهلية في عام 1958 والحرب الاخرى في عام 1975، باسماء الكثير من حاراته ، تحول الى وكر للطائفية فاكتملت استدارة الحلقة الطائفية في لبنان ! دمدت وانا اخرج نفسا عميقا : هذا هو سرطان الطائفية !
انحدرت الشمس الى المغيب ولم يقل ( ابو فادي ) انه تعب ، مع انني كنت ارى تعبه يتسلق وجهه الذي تنز منه حبات عرق لم ينجح هواء بحر بيروت في تجفيفها ! كان ابو فادي رمزا للانضباط الحزبي ، والذي عده ، بصواب تام ، مفتاح النجاة من المؤامرت التي تترى بلا توقف على البعث ، لذلك كان يقول لي : لن اقبل ان اتجاوب مع احد حول الحزب في اي قضية ما لم يكن الحزب وقيادته قد اقرتها ، وكان يشير الى بعض الاشخاص الذين استغلوا الاحتلال وتعرض الحزب لمجازر رهيبة ، مما سمح للبعض بانتهاك قدسية اسم الحزب .
اليوم وقد مرت اربعينية الرفيق المناضل ابو فادي اتذكر شيئا واحدا يسربل وجه الحقيقة ، وهو ان راضي فرحات عاش مناضلا ومات مناضلا وترك لابنه فادي ، ولكل عائلته الكريمة ، الفخر بكرامة الانسان ورفضه المساومات على حساب المبادئ .
تحية لذكرى ابو فادي اسكنه الله فسيح جناته والهمنا ، نحن محبيه ، واهله الصبر على رحيله ، قبل ان يحقق ما كان يمنحه زخم الحياة ودفق الحيوية رغم مرضه ، وهو تحرير العراق .
4 / 3 / 2008